صدرت رواية «الوليمة العارية» لعلي بدر عن دار الجمل، وهي الرابعة في مسيرة روائية للمؤلف بدأت في 2001. ومنذ أول عمل له، لفت بدر الأنظار إلى موهبة غير هياّبة في خوض غمار الفن الروائي، بما لهذا الفن من إمكانية النظر في صورة المثقف ضمن خصوصية التشكل المجتمعي في العراق المعاصر.

لعل هذه الرواية أول رواية عراقية يعتمد صاحبها على سجلات التاريخ على هذا النحو الدقيق، ومن له معرفة بتلك التواريخ، لابد أن يدرك جهد المؤلف الاستثنائي في بحثه عن مصادره التي تخوض في سيرة بغداد عشية مغادرة العثمانيين ودخول البريطانيين.

يمكن ان ننسب هذه الرواية إلى ما يسمى «تخييل التاريخ» وهي أعمال تحاذي جهد أمين معلوف الذي احدث نقلة في هذا الفن، فغدت المعرفة التاريخية الأكثر رواجا في الرواية الحديثة. بعض الدعاة السياسيين وبينهم طارق علي الباكستاني، حاولوا قراءة التاريخ روائيا من منطلق الأيديولوجيا، والبعض ينأى بنفسه عن هكذا اعتبارات ضمن فاعلية مستمرة للتفاعل مع التاريخ. وبين محاول للتطابق مع الدراسات السوسيولوجية ومخالف لها، تصنع روائيا اليوم هوامش وتقاطعات تتحرك بين تاريخ الجماعات والقادة والكتل الفاعلة. روائيون من أصول غربية أو آسيوية أو أفريقية، يقرأون اليوم المكان والهجرات والدماء المختلطة، وتطور الأفكار والأقدار والصراعات والأمزجة.

اننا والحالة هذه أمام طوفان العودة إلى التاريخ، يكاد يغرق الرواية في لججه، وقد زحف إلى العرب منذ التسعينات المنصرمة، فظهرت روايات المدن التي يجري تناولها لا حسب واقعية المصريين، بل بجهد بحثي تأريخي تورط فيه الجيل الجديد وخاصة من الذين يقرأون بلغات أخرى.

لعل عمل علي بدر يدرج في هذا السياق، فهو يملك توق الباحث او العارف بمادته والمنقّب في التواريخ والوقائع، فلا يوكل إلى الخيال وحده صناعة المادة القصصية، بل يحاول الاعتماد على مفارقة المزج بين المدونات التاريخية وصورتها المتخيلة وفق ما آلت اليه من قراءات في عين الحاضر. ونصه عموما ينشغل بسوسيولوجيا المثقف والمدينة، ومن هنا تصبح بغداد العاصمة الثقافية، هي المقصودة في ذلك الدرس الروائي.

نظرة المثقف التشاؤمية، تجعل منهج التغريب في «الوليمة العارية»، يعتمد عنصر التهكم، الوسيلة التي تجري عبرها قراءة الكثير من الوقائع، وجعل الوعي التاريخي في المادة الروائية يتوارى خلف كون من المفارقات الساخرة التي تفلت من ترسيمات الحدود في البنية الروائية وتطور الحبكة والشخصيات.

الوليمة العارية التي يسمي بها المؤلف روايته، ترمز إلى بغداد المنتهكة من قبل المحتلين، والموغلين بدمها وثرواتها من الخلائط التي سكنتها، فالفيضان والحروب والاوبئة والقمع، تجعل من بغداد فندقا كبيرا كما يقول المؤلف، فليس هناك من ثبات في هويتها التي تنوعت بتنوع أجناس ساكنيها وتعدد ولاءاتهم.

ربما يحتاج من يقرأ هذه الرواية إلى فهرست لمعرفة المفردات والجمل والتسميات التركية، وتلك المحوّرة عراقيا، ولكنها تأتي ضمن سياق الترميز اللساني لعادات مجتمع هجين، وهو في هذه النقطة، يبدو وكأنه قد ورّط القارئ في عروض الكلام الذي تشير إلى جهد استثنائي، فمهمته كراوٍ تتراجع مرات امام مهمته كمؤرخ او سارد مرويات موثقة، بينما تبدو التأرخة في هذه الرواية، وكأنها التنقل عموديا وافقيا بين السوسيولوجيا وتمثلاتها الخيالية، أي التوغل في الدرس المعرفي، وتبسيطه وفرشه على مساحة سائبة.

مدخل الرواية الذي يصف استنبول على ابتسار، يبدو أقرب إلى مزحة تدفع بالمقولة إلى حدودها المسلية، حيث يصعد الأفندي العراقي الترمواي ليلحق به المعمم وهو يسابق الحافلة كي يسمعه فتواه: «أمضيت الليل وأنا أقرأ كتاب الزهاوي الذي أعطيتني إياه بالأمس، وأنا أتساءل لماذا لا نحرق الزهاوي مع كتبه».. وعندما يخلو الأفندي إلى نفسه، وهو يرمق الركّاب، يتفرغ إلى قراءة موضوع في مجلة تركية عنوانها «حرية أفكار» وللشاعر عبد الحق حامت، فيزفر حسرة من صدره وهو يردد: لا حياة لنا إلا مع أوربا.

إننا هنا أمام مدخل كاركاتوري، يقذف بوجه القارئ شخصيتين متنافرتين، المعمم والافندي، وبينهما مطارحات الزهاوي وقصائده التي قرعت طبول التخلص من الخرافة والأفكار البالية.

أنجز المؤلف هذه الرواية قبل سنة من الاحتلال الأميركي للعراق، ولعل وطأة الحالة المزرية لبغداد قبيل هذا الوقت، قد جعلت مادة الرواية تلاحق الاحداثيات بما يشبه التداعي او التراسل بين زمنين يكادان يتشابهان على نحو عجيب.

على هذا تراجعت شخصية الأفندي المرصود في مطلع الرواية، أمام شخصية القاتل المنفذ لأوامر الوالي العثماني. محمود بك المأمور العراقي والآمر بالقتل وصاحب المواقف القذرة، هو الذي يصبح محور الرواية، في حين تتوارى شخصية المثقف خلفه، بل يصبح وعي هذا المثقف الساذج مقاربا للخراب الروحي والمادي في هذه المدينة المنتهكة.

بغداد عبر سيرة محمود بك، تتحول إلى مسلخ كبير، وشوارع وبيوت تتعرض إلى السلب والنهب، وشباب يساقون إلى جبهات الحرب، ومجاعات وأوبئة، بين هذا تبرز مكائد قصور الولاة وترفهم المسرف وتمتعهم بالعبيد والجواري. ولكن رغم كل هذه الفوضى يبقى الافندية على انشغال بقضية التجديد ومستقبل العراق المرتبط بتقدم الغرب لا بدولة الاستبداد العثماني. أحلام المثقفين أو انشغالاتهم تتحول روائيا إلى اهزوءة جديرة بالتنكيل، فهم مجرد شخصيات تافهة لا تستحق سوى الازدراء، اما التدين الشعبي وحكايات الرعاع والعيارين فهي تمتزج في تلك الخلطة العجائبية لبغداد.

يدخل المؤلف الوصف للمشاهد في قص تلك الاحداث الكئيبة، ليصنع معادلا بين جنون القتل وعبث السخرية، وهو كاتب ساخر من الطراز النادر في القص العراقي، وفي روايته هذه تبرز مواهبه على نحو واضح. انه يلتقط النوادر والمفارقات في الافكار التي يحاول الافندية تبنيها، ليصوغها في اطار من المبالغات والتضخيم، كي يعمل على أسلبتها، ولعل جهده في هذا المنحى، هو الافضل في الرواية.

يقدم السارد شخصية المثقف، وخاصة شخصية الزهاوي، بما تحمله آراؤه من حماس وجرأة تتجاوز المعقول إلى الإيمان المطلق بخرافة العقل، حيث تتحول المواضيع التي تبناها الزهاوي، ادلوجة ساذجة تثير الضحك. وشخصية الزهاوي بين مثقفي عصره، هي الأكثر عرضة للسخرية والنقد في مباحث النهضة، وتمر في الرواية أسماء الرصافي والأب انستاس ماري الكرملي وفهمي المدرس وسواهم، على نحو عابر، لأن شخصية الزهاوي مادة ثرة لرسم صورة المثقف الدعي الباعث على الرثاء.

حارس سراي الحكومة العثمانية، محمود بك الذي يقف بين المعمم والافندي، هو الشخصية الاولى في الرواية، وهو بغدادي تدرّج في التعليم على خطى مثقفي عصره، ولكن دراسته الفنون العسكرية في استنبول، أعدته لدور السلطة التي تنوب عن العثمانيين في القشلة، مركز الإدارة ببغداد. كان على المؤلف والحالة هذه استخدام تلك الشخصية كرابط بين الوقائع، فنحن نطل على صورة بغداد بأزقتها القديمة، وقصورها واسواقها، ومقاتلها ومآسيها عبر حركة هذا الرجل، وهو يجول المدينة على حصانه الاطهم، كما يردد السارد. وهو عبد مأمور كما يقول هو، ولكن هذه العبودية التي يستشعرها، تنعكس في احتقاره لكل شيء وكراهيتة لكل القيم. مركز الرواية يدور حول حركة هذه الشخصية او حركة القمع التي تمسك بخيوط المدينة، وتصوغ عبر الشخصية الرئيسية ناظم الانتقال من موقع إلى آخر في السرد.

هناك خط واحد يحكم خطاب الرواية، حيث ينظر إلى الأفكار والقيم وهي تطفو على سطح رجراج من الفجاجة والعنف والعبث، ويبدو المثقف هنا هو الأقبح صورة والأكثر نفيا لمقولة التغيير التي يتبناها، فهو وصولي وتافه ومقلد كاركتيري لحداثة الغرب. العرض الروائي في هذا العمل، ينفي المستقبل تماما بل يمحو إمكانية تشكّله، فالتاريخ بقعة آسنة يغطس فيها وعي الفرد وإنسانيته في بحر من العنف والجهل والخرافة، لان المجتمع كما يقول السارد: «كان بحاجة إلى نخبة ينظر نحوها، غير ان النخبة في بغداد كانت أكثر اضطرابا وبلبلة من مكارية العلوة عند تحميل الطماطم في يوم قائظ»..

وفي الظن ان لغة الشطّار في هذه الرواية، تغدو زاوية للنظر، وهي تنشغل بتسفيه الأفكار، قدر انشغالها بتوجيه الدلالة التاريخية، نحو مسارب الاحتقار، احتقار المكان والتعالي عليه. ولعل القارئ يدرك جهد المؤلف في التخلص من كل سقف ايديولوجي يستظل به، ولكنه وربما بدافع مضاد، يقع في إشكالية المثقف المتغربن التي يوجه اليها النقد في الرواية، وهي التي تجعل خطابه يحمل بعدا متعاليا او ايقاعا يكاد يتشابه على امتداد الرواية، فكل الاحداث يسوقها إلى مورد واحد.

بالطبع اسلوب السخرية وصناعة النكتة، أصعب الأساليب في الرواية، بيد ان تلك الرغبة في تركيز الانتباه اليه قد أكلت مادته الثمينة، وحصيلة جهده. ومع ان مسار الرواية يحفل بمقولات ينظر من خلالها الكاتب إلى الدرس السوسيولوجي بعين الجد، فيبدو السارد محللا، ومطلقا لمقولات تبدو أقرب إلى جزر تضاعف الإعجاب بعروضه التاريخية، غير ان التناقض بين السرد الذي يستمد من الخيال الشعبي او لغة الشارع الكثير من الأفكار والصيغ، وبين المادة الثقافية التي يتحرك برافعاتها، يبدو هذا التناقض وكأنه الملام في تفكيك بنية الرواية، فجهد التأليف في تركيب موقف درامي على كل كل حكاية سياسية او ثقافية، جعل الشخصيات تدخل وتخرج من مسرح الرواية دون ان يشكل وجودها مادة متفاعلة مع الأزمنة والأمكنة والشخصيات الاخرى، إلا في حدود الترسيم الذي وضع لها ضمن المشهد الواحد.

نجح المؤلف في ان يوصل مقدار الانتهاك والعنف الذي تتعرض له بغداد وهي تحت قبضة الاستبداد، حيث يتحول المجتمع كما يقول، إلى جمهور كذاب، دجال، متناقض (ص217). وهو هنا يقوم بعكس علاقات السبب والنتيجة، فهو ينظر إلى الماضي بعين الحاضر، في حين ان اللحظة الحاضرة تحتاج إلى الزمن كي تُقرأ، فحين يعيد التاريخ نفسه على هذا النحو التراجيدي، ستكون المهزلة هي الوحيدة القادرة على كتابته روائيا. ولا يمكن التسليم بأن رواية علي بدر تنتسب إلى هذا النوع من الكتابة، فهي على عهد روايته الاولى، مصابة بلوثة التصدي إلى الغرور والتبجح والازدواجية التي تسم سلوك المثقف، ويخاف القارئ على هذه المقولة من ان تتحول إلى ادلوجة مملة في رواياته المقبلة.