مُعظمُ الذين يُحاولون (التّلصُص) على خبايا سيرتي المضمرة/السيرة الداخلية، أي على أسرار الأماني والأحلام والأفكار التي لم تجد طريقها إلى الواقع السلوكي المتعين؛ يطرحون عليّ هذا السؤال؛ بصيغ شتى: بما أنك نشأت في بيئة دينية منغلقة يحكمها المنطق الديني بالكامل، من صور "الكلي" إلى تفاصيل "الجزئي"، ويحظى فيها (الشيخ التقليدي) بتقدير اجتماعي باذخ يكفل له أن يتفيأ ظلال نعيم الدنيا قبل نعيم الآخرة، وبما أن دراستك الابتدائية والمتوسطة والثانوية كانت في مدارس تحفيظ القرآن وفي المعهد العلمي، وبما أنك قد حفظت القرآن في شبابك الباكر، ألم تُراودك أحلام اليقظة؛ فتوقد فيك شيئاً من حماس مُركب: ديني/دنيوي؛ لتصبح شيخاً تقليدياً يحظى بالنعيم الموعود؟!.

إن ما أنقذني من عالم التزمت، هو الأدب، إضافة لعامل آخر مهم، وهو التقدير النفسي الخاص للحرية الإنسانية الفردية التي يقف لها التزمت الشمولي بالمرصاد..

لقد قلتها أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة: إن ما أنقذني من عالم التزمت، هو الأدب، إضافة لعامل آخر مهم، وهو التقدير النفسي الخاص للحرية الإنسانية الفردية التي يقف لها التزمت الشمولي بالمرصاد. مثلاً، عندما كنت في السادسة عشرة، أو السابعة عشرة، قرأت كثيراً من صفحات (زاد المعاد) لابن القيم؛ بتحريض غير مباشر من الوالد – حفظه الله -، حيث كان يثني على المؤلف وعلى الكتاب كثيراً، ولكن قراءتي لهذا الكتاب (الممتع لي في تلك السنوات)، لم تستطع أن تجعل ابن القيم يزيح المتنبي عن عرشه في قلبي وعقلي، ولا أن يقترب بنموذجه من نموذج المتنبي. وقِس على ذلك بقية الأمثال، من هذا الطرف وذاك.

لا يعني هذا أني لم أشتغل على قراءة ما هو مزدهر ورائج في بيئتي، أي على قراءة الخطاب الديني في نسخته التقليدية التي نشأت عليها. القراءة هنا اضطرار، وليست خياراً. لا يمكن أن يتحدث الناس من حولي في قضايا ساخنة؛ فأرى نفسي جاهلاً فيها، وأنا الذي كنت أتصور آنذاك – واهماً - أنني سأحيط بكل فنون المعرفة الأدبية واللغوية والتاريخية والدينية والسياسية. لهذا، أعدت حفظ القرآن بشكل صارم (مع أني حفظته بشكل مدرسي، ولكنه كان حفظاً ينتهي بأجله)، فكما كنت أعتقد آنذاك، لا يعقل أن أزعم لنفسي معرفة في النصوص العربية شعراً ونثراً، وأنا لا أحفظ القرآن: النص العربي الأول. لقد قرأت أن كل الشعراء المشهورين، وكل الأدباء الكبار، حفظوا القرآن أولاً، وتطبّعت بلاغتهم به، فكان هو النص/القاعدة التي تنهض عليها مواهبهم البلاغية، فضلاً عن معارفهم. وإذا كان هذا الأمر صحيحاً في القرآن، فهو صحيح في صحيح السنة. أذكر أن من أوائل الكتب التي اقتنيتها: مختصر صحيح البخاري، ومختصر صحيح مسلم، وقد قرأتهما قراءة متفحصة أولاً؛ استعداداً لحفظهما، باعتبارهما مَوروثاً بلاغياً يسند بلاغتي الأدبية، ثم لتوظيفهما في المعارضة النصوصية في الاستدلال. لكن، ومنذ القراءة الأولى، صُدمت بنصوص واضحة صريحة، تتعارض كثيراً مع ما هو متداول في بيئتي من فتاوى رائجة، فضلاً عن نصوص أخرى، تُثير كثيراً من الإشكاليات فيما يخص وقائع التاريخ، وبالتالي، تعيد قراءة الواقع.

اكتشاف مثل هذه النصوص في كتابين تُجمِعُ البيئة الدينية المحيطة بي على صحتهما؛ قادني إلى القراءة في بعض كتب الفقه التي تُعنى بالخلاف. في تلك الفترة المبكرة من زمني القرائي؛ لم أرتح للقراءة في أكثرها؛ إلا ما كان من كتاب: (الفقه والإسلامي وأدلته) للشيخ: وهبة الزحيلي – رحمه الله -، حيث قرأت بعض مجلداته، خاصة الأجزاء المعنية بالصلاة والطهارة والصوم ومسائل البيع. وكان الذي شدني إليه من بين جميع كتب الفقه التي تزخر بها المكتبة، أنه كتاب يستعرض فيه مؤلفُه المسائلَ الفقهية كما هي في كل المذاهب الفقهية المشهورة، بأدلتها النصية والعقلية، وعلى نحو تفصيلي، مكتوب بأسلوب واضح، ومطبوع في نسخة تُغري بترتيبها وجمالها؛ مقارنة ببقية كتب الفقه التراثية التي كانت في المكتبة الخيرية قبل ثمانية وعشرين عاماً. إذن، في تلك الفترة المبكرة من حياتي القرائية، كانت قراءتي المحدودة في الخلاف الفقهي محدودة بما ورد في كتاب الزحيلي خاصة، إضافة إلى النصوص الإشكالية في البخاري ومسلم، وقراءتي في فتح الباري لشرح تلك النصوص التي أشكلت عليّ تحديداً. بناء على كل هذا، وبالتوازي مع قراءتي في تاريخ الطبري، وبالتحديد في أجزائه المعنية بصدر الإسلام، وجدت أني – شيئاً فشيئاً - أفقد الثقة في كل ما يطرحه الخطاب التقليدي من حولي. لم أعد أثق بما يقوله رموز التقليدية مهما كان موقعهم؛ بعد أن وقعت – بنفسي - على حجم التعمية والإخفاء. وصرت بعد ذلك عندما أسمع بفتوى مشهورة أو رأي رائج، وخاصة عندما تأخذ هذه الآراء بُعداً إشكالياً في الواقع الاجتماعي؛ أبادر إلى كتب الخلاف الفقهي، وأستعرض كل ما ورد فيها، وكان يتأكد لي - باستمرار - صواب ما انتهيت إليه في البداية من عدم الثقة بالتقليديين، وأكتشف أن الشرع الإسلامي أوسع بكثير من تأزمات بعض الفقهاء التقليديين المأخوذين بالفرضيات التزمّتية التي يؤكدون من خلالها – بشكل مباشر أو غير مباشر - أن الرأي (الأحوط) هو الرأي (الأصوب)!.

هذا الارتياب بالخطاب التقليدي الانغلاقي، هذا الارتياب الذي يأخذ صورة الشك بعلميته من جهة، وبأخلاقيته من جهة أخرى، والذي كان يتصاعد باستمرار مع كل انفتاح على المتنوع الديني خاصة، والمتنوع الثقافي عامة؛ جعلني لا آخذ تحذيرات هؤلاء المتزمتين من الكتاب الفلسفي ومن الفلاسفة بعين الاعتبار. يكفي أن هؤلاء حاصروا الكتاب الفلسفي على مستوى توفره في بيئتي، لكن لن أسمح لهم أن يحاصروا إرادتي في القراءة. بل لقد كان لشجبهم الكتاب الفلسفي وتجريمهم له إسهام – غير مقصود - في تحريضي على قراءة هذا الممنوع، أو الذي يُريدون له أن يكون ممنوعاً؛ فأصبح – بدخوله دائرة الممنوع - حقيقة أو احتمالاً – مرغوباً.

طبعاً، ليس عاملاً واحداً هو ما كان يدفعني في هذا الاتجاه نحو الكتاب الفكري/الفلسفي. الإنسان كائن مركب، لا تنفصل عناصر الوجدان فيه عن عناصر التفكير الموضوعي، كما لا تنفصل فيه المؤثرات الواعية عن المؤثرات اللاواعية، إذ تعمل كلها على نحو جدلي مركب، لا نستطيع رصد ما وراء تجلياته الظاهرة في كثير من الأحيان.

ما أستطيع تحديده الآن بشيء من الوضوح النسبي، فيما يخص جملة العوامل المؤثرة في رسم معالم توجهي القرائي، هو أني اصطدمت بهذا التزمت الذي يُحرّم ويُجرّم؛ فيُغري بممنوعه، ثم إن هناك الاشتباك الأدبي الخالص مع أدباء تقاطعوا مع إشكاليات الفكري الفلسفي بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فكان من الطبيعي أن تصيبني عدوى الاهتمام. وكمثال، فإنني قد تعرّفت أول ما تعرّفت على ديكارت عن طريق تلك الكتب التي هاجمت طه حسين – رحمه الله -، في كتابه (في الشعر الجاهلي) خاصة، إذ إن كل هذه الكتب الناقدة الحاقدة كانت تقف عند المنهج الديكارتي الشكي الذي تبناه طه حسين، أو زعم أنه يتبناه، وهي إما تهاجم هذا المنهج الشكي أصالة، وتطعن فيه، وتدعي خطورته على اليقين الديني، أو هي تتهم طه حسين بإساءة فهم المنهج، أو إساءة تطبيقه، أو تعيبه بالتُّهْمَتين معاً.

هناك عامل آخر، أشد أثراً – فيما أزعم - من هذا وذاك، وهو الاشتباك مع الخطاب النقدي الحديث. فإذا كانت كتب (السرقات الأدبية) التي وظّف فيها النقاد العرب القدامى ثقافتهم الفلسفية في سَلْب الشعراء المبدعين في المعاني – كالمتنبي وأبي تمام - جوهرَ إبداعهم، قد ربطتني بالفلسفة القديمة، فإن القراءة في المدارس الأدبية والمناهج النقدية الحديثة لا بد وأن تقود إلى القراءة في التاريخ الاجتماعي وتحولاته في الغرب خاصة، وإلى القراءة في التاريخ الفكري/الفلسفي المتواشج معه بطبيعة الحال.

أستطيع أن أقول: إنني إلى أواخر السنة الأولى من دراستي الجامعية، كانت ثقافتي الأدبية تراثية خالصة. لم يكن الأدب القديم وما يرتبط به من تاريخ وقضايا مجرد هواية، بل كان هو كل شيء بالنسبة لي. كان هو عملي الذي أبني عليه مستقبلي الحالم/غير الواضح، كما كان هو هوايتي. كنت انطوائياً إلى حد كبير، فكنت أقرأ طوال اليوم، وأرتاح من القراءة بنوع آخر من القراءة، وهكذا دواليك؛ باستثناء ما بين السابعة والثانية عشرة والنصف ظهراً في أيام الدارسة، بل حتى هذه الساعات التي كنت أقضيها على مقاعد الدراسة، لم تكن خالصة للدراسة، إذ كنت - في كثير من المحاضرات - أضع الكتاب الأدبي أمامي، مُوهما الأستاذ الذي أتابعه ببصري لِمَاما أنني معه، وأن الكتاب الذي أضعه على الطاولة أمامي كتاب له علاقة بالمحاضرة. أفعل هذا، بينما أسترق النظر قارئاً فيما أهوى، عازفاً - بوعيي - عن كل ما أتصوره كلاماً فارغاً. كان هذا يحدث في كثير من الأحيان. وعندما يكون الأستاذ يحاضر واقفاً، ويكون نبيهاً ودقيق الملاحظة، أتراجع إلى منتصف القاعة، وأحرص على أن يكون مقعدي خلف زميل (ضخم عريض المنكبين!)، بحيث تَخْفى طاولتي والكتاب المفتوح عليها عن عيني هذا الأستاذ. وأذكر في أحد الأيام أنني كنت أحفظ بعض قصائد ابن الفارض من ديوانه الذي أمامي؛ عندما لا حظ أستاذ مادة (تاريخ نشأة النحو) تعلّق بصري بالكتاب الذي أمامي، وقد نزل من المنصة إلى حيث أجلس، وأمسك بالكتاب. وحينئذٍ توقعت أن يعاتبني بشدة، أو حتى يطردني من القاعة، ولكنه اكتفى بقوله: "ابن الفارض!، أنت عارف ابن الفارض دا إيه!" (يقصد: كيف يقرأ "الشاب الملتحي" في القصيم ابن الفارض)، ثم عاد مكانه وموضع كلامه من المحاضرة، وكأنه لم يلحظ خطأ ما. وفي اعتقادي أن ما جعله يأخذ الأمر بهذه الأريحية، أنه وجد الكتاب كتاب شعر، وحيث هو يرى اللغة والنحو وتاريخ النحو والأدب بأجناسه حقلاً واحداً، فمن الطبيعي أن لا يرى في هذه القراءة الحرة في الشعر خروجاً على ميدان الاهتمام لطالب في كلية اللغة، حتى وإن كان فيها خروج على موضوع المحاضرة، إذ لا تخلو محاضرة كهذه من استطرادات ترتبط بذلك الميدان اللغوي/الأدبي العام.

إن هذا الهوس بالأدب وما له علاقة بالأدب؛ عزّز ثقافتي الأدبية التقليدية إلى حد كبير، وزاد من ثقتي بنفسي (في هذا الجانب خصوصاً) إلى درجة الغرور في كثير من الأحيان. ومن وجهة نظري آنذاك، كان غروراً مُبرّراً؛ فقد كنت أكتشف في كل محاضرة لها علاقة بالتراث الأدبي أن مخزوني المعرفي/الأدبي أكبر بكثير من مخزون أساتذتي، وكنت أُعلّق – عندما يكون المجال مفتوحاً – ببعض الإحالات والإشارات والمعلومات المرتبطة بخلفيات ما يطرحه أستاذ المادة، ومن خلال ذلك، يتضح لي أن الأستاذ لا يعرف ما أعرف، أو – على الأقل - لا يعرف معظمه، وأن معلوماته لا تتعدى حدود المنهج المقرر، المنهج الذي يحتكره على مدى سنوات؛ حتى لا يضطر إلى استظهار المنهج الجديد!.

لقد كانت هذه الحالة من الغرور تحفزني لمزيد من القراءة، والقراءة تُثريني بمزيد من الثقافة التي تدفعني إلى غرور أكبر. لكن ما أفسدها عليّ: أي حالة الغرور، وجعلني عرضة للارتباك الثقافي أمام نفسي، تلك المصطلحات التي تتعلق بأسماء المدارس الأدبية والمناهج النقدية، والتي بدأت أسمعها كثيراً، وخاصة عند بعض الأساتذة المجتهدين – وهم قلة للأسف – أولئك الذين يحملون هَمَّ الأدب ويتَعشّقونه، ويتابعون تحولاته وتطوراته بشغف يتجاوز واجب المحاضرة الرسمي. فمن هؤلاء كنت أسمع: (الكلاسيكية)، (الرومانسية)، (الرمزية)، (البرناسية)، (الواقعية)، (نظرية التعبير)، (نظرية الانعكاس)...إلخ، مما قرأت عنها عرضاً في الكتب التي تتناول تاريخ الأدب الحديث، فأصبحت معلوماتي عنها عامة، وأحياناً غائمة، بحيث لم أستطع التعليق على ما يقوله الأستاذ فيها وعنها؛ كما كنت أفعل من قبل في القضايا المتعلقة بالتراث. لهذا وجدتني مضطراً – لأحفظ ماء وجهي الثقافي، ولو أمام نفسي - إلى البحث عن الكتب التي تُعنى بها، ومن ثم إلى الكتب التي تتبّع أصولها، وهذا قادني – بحكم الضرورة الثقافية – إلى قراءة الخلفيات الاجتماعية/الثقافية لها، والفلسفات الكبرى التي تقف خلف نشأتها، والتي تمنحها المشروعية النظرية على مستوى التحليل. لهذا، كان كتاب (تمهيد في النقد الحديث) لروز غريب، وكتاب (النقد الأدبي الحديث) لغنيمي هلال، وكتاب (قضايا في النقد الأدبي الحديث) لمحمد زكي العشماوي، من أوائل الكتب التي ربطتني بالنقد الحديث، ومن ثم، بالأجواء الفلسفية التي تحاول – ابتداء – أن تحكم منطق الفن/الجمال.