في مقال طريف وغريب ترجمه المبدع محمد الضبع في كتاب (اخرج مع فتاة تحب الكتابة) يدعو كريس أبو زيد الكاتبَ الذي يُريد الإبداع وتحقيق الخلود الأدبي إلى القيام بما يسميه رحلة الاتصال ب "الروح المعذبة"، ويُقدم للكُتاب دليلاً يتضمن نصائح غريبة يرى بأنها ستُساهم في مساعدتهم على القيام بتلك الرحلة وبلوغ أقصى درجات الألم والمعاناة وتُمكّنهم نتيجة لذلك من كتابة ما هو أجمل وأكثر تأثيرًا. في بداية المقال تأكيد على أن: "البؤس. العذاب. اليأس" هي العوامل التي صنعت أعظم الكُتاب وليس "الإندروفين وهرومونات السعادة"، ودعوةٌ للتفكير يقول فيها: "فكّر قليلاً. هل كان بإمكان كافكا أن يكتب "المسخ" لو كان مشغولاً بتناول وجباته الصحيّة والتمرّن يوميًا لماراثونٍ ما يريد المشاركة به؟ هل بإمكان فيرجينيا وولف أن تكتب "إلى المنارة" لو كانت تذهب إلى حصص الزومبا، وتخلط عصائر الفواكه كل صباح؟ لا. الحقيقة هي أن الأدب العظيم يحتاج إلى معاناة عظيمة".

"إن كنت في زواج تعيس أو علاقة تعيسة، فأهنئك على هذا. لقد اختصرت طريقًا طويلًا على نفسك"، هذه العبارات قد توضح نبرة السخرية العالية في نصائح كريس التي تدعو الكُتاب إلى إحاطة أنفسهم بأقسى وأفظع الظروف والمشكلات لأنها أنسب بيئة لولادة الأعمال المميزة. وجميع النصائح تفترض بأن المعاناة الخاصة فقط هي التي تصنع الإبداع، باستثناء عبارة واحدة تقول: "لا تيأس. أنت كاتب. بإمكانك اختلاق القصص دائمًا". لكن الواقع يثبت دائمًا أن الأديب الموهوب هو من يستطيع التفاعل مع مُعاناة الآخرين والتعايش معها وكأنها مُعاناته الخاصة ثم يكتب في ضوئها قصصه أو أشعاره.

يشترك كثير من المتلقين مع كاتب المقال في افتراض أن المعاناة الشخصية هي منبع الإبداع الأقوى لدى الشاعر أو الكاتب، ففي أحد الأيام سأل مثقفٌ إنجليزي الكاتب العالمي صمويل بيكيت عن سر ديمومة الحزن في كتاباته، واستفسر عن طبيعة طفولته وهل كانت طفولة قاسية؟ يقول بيكيت: " أخبرته أن لا، فقد عشت طفولة سعيدة جدًا. تركت الحفل وركبت التاكسي، على الحاجز الزجاجي الذي كان يفصل بيني وبين السائق كانت هناك ثلاث لافتات: واحدة تطلب مساعدة للعميان، وأخرى للأيتام، وثالثة لمساعدة لاجئي الحرب. أنت لست بحاجة للبحث عن الأحزان، فهي تصرخ في وجهك حتى في سيارات الأجرة في شوارع لندن".

إذا كانت الأحزان تصرخ في وجه الكاتب في ذلك الزمن وفي أرقى الأماكن، فكيف يكون الوضع في عصرنا هذا الذي تتدفق فيه أخبار الحروب والكوارث على الكاتب أو الشاعر على مدار الساعة؟! لا شك أن المبدع قد أصبح في غنى تام عن اختلاق أية معاناة، هذا إذا ما افترضنا عدم وجودها في حياته من الأساس.

إذا كانت المعاناة قد أثّرت بعمق في تشكيل وصياغة تجارب أدباء كبار فإنها قد ساهمت إلى حد كبير في زيادة تعاطفنا مع تجارب أخرى أقل قيمة إبداعية لمجرد أن أصحابها عاشوا معاناة من نوع ما كالفقر أو المرض أو الانتحار أو الفشل أو غيرها من أشكال المعاناة في حياتهم، ويُمكن بقليل من التأمل ملاحظة أن ميل فئة غير قليلة من المتلقين تتجه نحو الاهتمام بأشعار الشعراء أصحاب المعاناة بغض النظر عن حجم الإبداع والتميز فيها!.