"لا ألبس إلا السواد، وفي دائرة اجتمع بجمهور لا اتبادل معه كلمة، فالدائرة هي مملكتي، لا أسمح لأحد أن يخترقها." ولايتردد أن يركل القدم التي تجرؤ فتخترق الدائرة.

عبارة تستوقفك لهذا الكائن الغريب و الذي تحوطه طاقة فريدة من نوعها، أنه فيليب بوتي "فيليب الصغير" الفرنسي ابن الأربعة و عشرين عاماً والذي مشى على سلك مُعَلَّق بين برجي التجارة العالمية في 7 أغسطس 1974، والذي مُثلت مؤخراً قصته في الفيلم الوثائقي تحت مسمى "المشي" The walk ، والذي عرض 3D في مهرجان السينما بنيويورك في سبتمبر 2015 وذلك كتحية لضحايا 11 سبتمبر 2001، من إخراج المخرج روبرت زيميكس ومن تأليف كريستوفر بروان الذي اعتمد في كتابته لهذه السيرة على كتاب "لبلوغ السحاب" لفيليب بوتي نفسه، والفيلم من بطولة الممثل جوزيف جوردون ليفيت و شارلوت لوبون.

فيليب بوتي الفتي الذي حطم آمال أبيه بتحوله لفنان استعراض بشوارع باريس، والذي حقاً مشى على حبل بارتفاع 1500 قدم ومباشرة لقلب التاريخ.

في مقابلة تليفزيونية يقول: "يسألونني لماذا تجازف بالتعرض للموت هكذا؟ ويدهشني السؤال، فبالنسبة لي فإن هذه هي الحياة."

تغيرت حياة فيليب حين كان في الثامنة من عمره حين رأى لأول مرة في حياته رجلاً يمشي على الحبل، وحين تعرف على بابا رودي المهرج والخبير بفن المشي على الحبل، المعلم الأول والذي حاول أن يغرس فيه أخلاقيات المهنة وأهمها " احترام الجمهور." في مشهد طريف نشهد بابا رودي يحاول أن يلقن فيليب الفن المعقد وراء فعل بسيط كتحية الجمهور، يقول:

" من المهم أن تكون تحيتك مدروسة، لا تبدي فيها أي محاولة مبالغ فيها سطحياً، وإنما لابد وأن يتكثف الشعور بالعرفان بالقلب، عرفان مقترن باحترام عميق للجمهور." ولم يستطع فيليب أن يفهم لماذا يبدي عرفاناً للجمهور في حين أنه هو الذي يعرض حياته للخطر؟ لكنه خلافٌ قاده للغة جسد قادرة على الاستحواذ على تعاطف و احترام الجمهور.

الأمر الآخر الذي غير حياة هذا الرجل الظاهرة أنه وكما جاء على لسانه: "كنت دوماً أبحث عن المكان المثالي لتعليق حبلي الذي سأمشي عليه، وما أن المح مكاناً جميلاً حتى أحلم بتعليق حبلي فيه." سواء بين الأشجار الأعلى فالأعلى أم بين برجي كاتدرائية نوتردام.

ومن هنا جاءت اللحظة التغييرية الحاسمة في حياته حين قادته أقدراه لعيادة طبيب أسنان، وكان يتصفح المجلات حين ووقع بصره على صورة لبرجي التجارة العالمية بنيويورك، وهما في طور الإنشاء، والخبر بأنهما سيكونان أعلى برجين في العالم ويفوقان برج إيفل بمئة متر. ومن يومها رسم بالقلم الأسود خطاً بينهما وقرر أن يكون ذلك الحبل الذي سيمشي عليه بينهما معلقاً بين السماء والأرض. من يومها صار يمشي بذلك الحلم في جيبه وفي سعي حثيث لتحقيقه.

ففي معظم المقابلات مع فيليب بوتي الذي يبلغ الآن السادسة والستين من العمر يجيء التساؤل عن سر الإعجاز الذي يأتيه، وفي مقابلة يسأله الصحافي، " هل تشعر بالتوتر قبل أن تقوم بالمشي على هذا الارتفاع الشاهق بلا وسائل حماية وبلاشبكة تتلقاك فيما لو زلت قدمك؟" وتأتي الإجابة بلاتردد، " أبداً لا أشعر بالتوتر، ما أشعر به هو اليقين certitude." وتستوقفنا كلمة اليقين، هذا الذي يحمل الجسد في مشيه معلقاً في الهواء، ويذكرنا بالآية 19 من سورة المُلْك،

"أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير ."

دوماً استوقفتتني تلك الآية، هذه الإنقباضة في الجناح والتي تهوي بالجسد كحجر من شاهق، انقباضة لا يحمل الجسد أثناءها غير إراداة الإحياء التي يحمل بها الخالق مخلوقاته.

وكان فيليب بوتي في الرابعة والعشرين حين نصب جبله بين برجي التجارة العالمية، ولم يلبث أن تنبهت الجماهير وتجمعت معلقة قلوبها لذلك الخيال النحيل الموشك على الإنطلاق في الفضاء.

رجال البوليس الذين حضروا لإيقافة لم يملكوا إلا الوقوع في سحره، يقول أحدهم: " كانت لحظة يمكن وصفها بكلمة واحدة: مهيب. وقفتُ مدهوشاً مؤمناً بأنني أشهد حدثاً لايمكن أن يشهده المرء مرتين في حياته، أشهد عجيبة خارقة للعادة، أنه المستحيل يتحقق." أخذ فيليب يروح ويجيء بين البرجين لستة مرات وينحني لجمهوره من تلك القمة الشاهقة بل ويستلقي متمدداً كمن يأخذ غفوة على الحبل، حيث يقول: "تلاشى كل شيء تحتي، الهوة ونيويورك ولم يبق في بصري وبصيرتي غير الحبل." هذا اليقين الذي كان له مثل جناح حمله، أو كما يقول: "يكمن السر في أن تُغْلِقَ وعيك عن كل شيء وتفتحه على اتساعه على ما أنت بصدده، على نقطة الوجود التي هي أنت." هذا الإغلاق والفتح لعدسة مخيفة هي الوعي البشري، والذي يكمن فيه تفوق فيليب و قدرته على التحكم به، هذه القدرة التي نقلته لقلب التاريخ. ويؤكد على سر آخر للتفوق، أنه الارتجال improvision ، "الإرتجال" جيد لأنه يفتحك على المجهول."

الطريف أنه قد تم القبض على فيليب بوتي بعد العرض الذي قدمه، وتم تقييده لكرسي بمركز البوليس حيث أُدين بتهمة إحداث اضطراب، وتم إسقاط التهمة لكن فرضت عليه عقوبة أن يقدم عروضاً مجانية للأطفال بالسنترال بارك، ولقد قام العمال بالبرجين بمنحه تصريحاً بدخولهما لمدى الحياة.

و يظهر فيليب الآن في مقابلات صحافية بمناسبة صدور الفيلم، و يتكرر السؤال:

"هل يراودك أن تقوم بمثل ذلك الآن؟" ويجيب ضاحكاً، "بالطبع لا، لكنني ما لن أكف عنه هو الإيمان بالمستحيل، إمكانية إنجاز المستحيل." ولقد كان فيليب ذاته هو المستحيل حين كان معلقاً بين السماء والأرض، "كنت نصف إنسان ونصف طير. لحظة من الوحدة التامة مركزاً على جسدي المتحور."

أحد تحديات التي واجهت الفيلم هو إعادة بناء نيوريورك ومانهاتن السبعينات، ولقد تم تجميع ملامحها من ذكريات الناس ومن خلال الصور التي التقطها المصورون من فريق فيليب بوتي لتلك التجربة. ولقد فاز الفيلم على ذلك بجائرة أفضل تاثيرات بصرية.

فيلم من المستحيل وبالذات في نصفه الثاني، ويستحق التوقف.


فيليب بوتي في الرابعة و العشرين حين نصب حبله بين برجي التجارة العالمية

فيليب بوتي

رجال البوليس الذين حضروا لإيقافة لم يملكوا إلا الوقوع في سحره