عند ما جاء الرحالة الانجليزي والسويسري الأصل جون لويس بيركهارت إلى الحجاز عام 1814م كانت بعض قبائل مكة خصوصا الأشراف لا يزالون يتمسكون بعادة قريش وأشراف العرب القدامى عند ما كانوا يدفعون بأبنائهم إلى المراضع الأعرابيات في البادية حتى ينشأ الأطفال شجعانا فصحاء اللسان أصحاء الجسم ذلك لأنهم يستمدون فوائد وحسنات جمة من تنشئتهم البدوية فيكسبون ليس فقط القوة والنشاط الجسدي, بل أيضا جزءا من تلك الحيوية وحرية التصرف والجرأة التي تميز سكان الصحراء فضلا عن عناية كبيرة بفضائل حسن الوفادة والأخلاق التي يكتسبونها أكثر مما لو نشأوا في المدن المختلطة.

ويخبرنا بيركهارت في كتابه رحلات إلى شبه الجزيرة العربية وهو يتحدث عن الشريف غالب الذي اتسم حكمه بالرفق واللين والحذر أن هناك عادة لدى الأشراف المقيمين في مكة وما جاورها الذين يقومون بإرسال كل صبي إلى خيمة ما. عند البدو في الجوار ويعهد به إلى مرضعة بدوية, بعد ثمانية أيام فقط من ولادته حيث يربى مع الأولاد البدو في الخيمة وينشأ كبدوي حقيقي لثمانية أو عشرة أعوام, أو إلى أن يصبح الولد قادرا على ركوب الفرس, فيعود به والده عندئذ إلى المدينة. ولا يزور الولد والديه أبدا خلال تلك الفترة كلها, ولا يدخل المدينة سوى في شهره السادس حين تحمله أمه بالرضاعة في زيارة قصيرة إلى عائلته وتعود به فورا إلى قبيلتها, ولا يترك الولد أبدا في حضن أمه أكثر من ثلاثين يوما بعد ولادته, في أي حال من الأحوال, وأحيانا تمدد فترة إقامته بين البدو حتى الثالثة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره, فيصبح بهذه الطريقة معتادا على أخطار الحياة البدوية كلها وتقلباتها, ويعتاد جسده على التعب والحرمان, ويكتسب معرفة بلغة البدو الصرفة, ونفوذا بينهم يصبح فيما بعد في غاية الأهمية له, وليس هناك أي زعيم منهم نزولا إلى أشدهم فقرا لم تتم تربيته بين البدو, كذلك فإن العديد منهم متزوجون بفتيات بدويات من قبيلة عدوان التي تشتهر ببسالة رجالها وحسن وفادتهم الا أنها تقلصت بسبب حروب الأشراف الأهلية التي كانوا يشاركون فيها دائما, وبسبب الغزو الأخير الذي قام به محمد علي, حين رأوا من الملائم ترك منطقة الحجاز واللجوء إلى مخيمات قبائل السهل الشرقي ويرسل الأشراف الآخرون أولادهم إلى مخيمات هذيل وثقيف وبني سعد وغيرها, والقليل منهم إلى قبائل قريش وحرب.

ويذكر ان الشريف الذي نشأ في مخيمات البدو, يستمر في معاملتهم مدى الحياة بالاحترام نفسه الذي يعامل به أهله الحقيقيين وإخوته, فيدعوهم بالتالي: والدي, أمي, أخي ويتلقى منهم بالمقابل تسميات مماثلة, وهم كلما أتوا إلى مكة, يقيمون في منزل ربيبهم ولا يتركونه أبدا من غير أن يتلقوا الهدايا, ويخبرنا كذلك أنه خلال فترة تلمذة الشريف أطلق تسمية أرحام على أبعد انساب العائلة البدوية الذين كانوا يتمتعون أيضا بصداقته واهتمامه, كما يعتبر طوال حياته أنه ينتمي إلى المضارب التي أمضى فيها سنواته الأولى, ويطلق على أهلها تسمية "شعبنا" أو "عائلتنا" ويولي اهتماما فائقا بمصائرهم, ويقوم غالبا في أوقات فراغه بزيارتهم خلال أشهر الربيع ويرافقهم أحيانا في تجوالهم وحروبهم. وقد أظهر الشريف غالب اهتمام دائم بوالديه بالرضاعة, فكان كلما زاروه ينهض من مجلسه ويعانقهم, رغم أنهم لا يتميزون عن أي من سكان الصحراء الحقيري الثياب, وبالطبع يحدث أحيانا أن الأولاد الأشراف لا يستطيعون التكيف بسهولة مع والديهم الحقيقيين في المنزل, بل يفرون أحيانا لينضموا مجددا إلى أصدقاء طفولتهم بدو الصحراء.

ويمضي بيركهات إلى القول: إن هذه العادة التي وصفتها للتو هي غاية في القدم في شبه الجزيرة العربية فقد نشأ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بين الغرباء قبيلة بني سعد ويستشهدون به دائما عند التكلم عن العادة التي لا تزال شائعة بين الأشراف الا انهم الآن الوحيدون تقريبا في الجزيرة العربية الذين يتمسكون بها.

ثم يذكر أن العرب الوحيدين الذين شهد بينهم شيئا مماثلا هم البدو المدعوون الموالي. (قبيلة منحدرة من الحجاز- المترجم) وقد كانوا فيما مضى قبيلة واسعة السلطة لكنها تقلصت الآن إلى عدد ضئيل وهم من الرعاة المنتشرون حول المناطق المجاورة لحلب في الشام فالعادة المتأصلة عند هؤلاء تقول بأن على ابن زعيم تلك القبيلة أن ينشأ في عائلة فرد أخرى من القبيلة نفسها, ولكن في مضارب أخرى حتى يصبح كبيرا بما يكفي ليكون قادرا على تدبر أمره بنفسه ويدعو التلميذ مرشده "المرتي" ويظهر له أشد الاحترام فيما تبقى من حياته.


جون لويس بيركهارت