بداية، أجدني مضطراً لكتابة تعريف مبسط للمثقف، لكي لا أقع في فخاخ التعريفات والمصطلحات والمفاهيم، لأنها كثيرة ومتداخلة ومتباينة. فالمثقف، هو ذلك المتمرد الذي يتصدر طليعة المجتمع فكرياً واجتماعياً، والذي يتبنى قضايا وهموم حيزه المكاني، بل ويتعدى ذلك أحياناً، وهو باختصار شديد: مجموعة من اللاءات الموجهة بفكر وعلم وجرأة ضد كل مظاهر التخلف والظلم والفساد.

ويُعاني المثقف من حزمة كبيرة من الإشكاليات والتعقيدات والأزمات والتحديات، سواء مع المجتمع بأفراده ومكوناته أو مع السلطة بمختلف أشكالها ومؤسساتها، إضافة إلى معانته المزمنة مع الفكر والمزاج والسلوك السائد والمتشكل من شرعنة التراث وهيمنة الماضي وشيطنة الجديد.

منذ بداية الألفية الثالثة، وتحديداً منذ اندلاع ثورات "الربيع العربي" الذي دشنته ثورة الياسمين التونسية في عام ٢٠١٠، والتي تداعت ككرة لهب أحرقت العديد من الأقطار العربية، بل وحولت بعضها إلى ساحات حرب مفتوحة على كل الاتجاهات والمستويات، وقع المثقف العربي في أزمة حقيقية نالت كثيراً من صورته ومصداقيته ومكانته.

وسط كل ذلك الركام الهائل من الاقتتال والاحتراب والدمار والفتن، تعرض المثقف العربي إلى "محنة كبرى"، هي أشبه بامتحان عسير جداً، أسئلته واستحقاقاته ومآلاته مثيرة ومربكة، بل وكارثية.

والمثقف العربي، بل والمثقف على وجه العموم، هو مجرد إنسان طبيعي يملك الكثير من الرغبات والطموحات والتطلعات، تماماً كأي شخص عادي، ويبحث عن استقرار وأمان نفسي ومالي وعائلي، ويُعاني من أعباء الكثير من المسؤوليات والالتزامات، ولا يجب أن يُجرّد من كل ذلك، فقط لأنه قرر أن يتصدى للشأن العام أو يُحارب جبهة ما. هذه النظرة الملتبسة التي يحملها المجتمع للمثقف، هي الأزمة الحقيقية التي تُشكل تحدياً خطيراً لحركة المثقف، وتضعه دائماً في دائرة الشك والريبة وعلامات الاستفهام، بل والتخوين والاتهام.

"الربيع العربي" المثير للجدل والشك والمآل، اسقط الكثير من الأقنعة والأفكار والمتبنيات والأيديولوجيات والقناعات والرموز والشخصيات، ولم يكن المثقف العربي بمنأى عن ذلك السقوط المدوّي.

نعم، سقط المثقف العربي حينما سخّر قلمه دفاعاً عن النظم الدكتاتورية التي امتهنت قتل وظلم وتشريد شعوبها، وسقط المثقف العربي حينما مارس التحول كالحرباء في فكره وقناعاته والتزاماته، وسقط المثقف العربي حينما احترف مهنة الانتهازي الذي باع كل مبادئه وقيمه وأخلاقياته، وسقط المثقف العربي حينما آثر السلامة على مكتسباته ونجاحاته وثرواته. وأنا هنا لا أعمم طبعاً، فهناك الكثير من المثقفين العرب الذين تحملوا الظلم والتشريد والتصفية نتيجة صمودهم في وجه الظلم والتخلف والطغيان والدكتاتورية.

السقوط المدوّي للمثقف العربي الذي تخلى عن نشر الوعي وتحطيم الأصنام وإشاعة التنوير، ليمتهن التطبيل والتحوّل والارتزاق، شوه كثيراً تلك الصورة الجميلة والبراقة للمثقف العربي.

يبدو أن الوقت قد حان لصعود جيل جديد من المثقفين العرب، الذين يُعبرون بصدق وشفافية وموضوعية عن الواقع العربي الذي يُعاني من التحولات والأزمات والإحباطات.