أخبارٌ مزعجة لايكاد يصدقها عقل.. وفيديوهات مخجلة أصبح نشرها سهلاً.. حتى بات الكثيرون يتخيلون أن غرف الأطباء وأماكن استقبال المرضى في الطوارئ بدأت تتحول إلى حلبات مصارعة!! لايكاد ينقصها سوى تعليق الراحل إبراهيم الراشد رحمه الله!! هنا طبيب يتلقى صفعةً؛ وهناك آخر تصله لكمةٌ خطافيةٌ ويتم طرحه أرضاً، والثالث يتعرض لأنواعٍ من الأذى اللفظي.. كل ذلك أثناء ممارسة عمله اليومي الذي من المفترض أن نعتبره أجلّ وأشرف عمل إنساني نبيل!!

مشاهد أصبحت –للأسف- تتكرر في مدن مختلفة؛ ولم تقتصر على مستشفيات طرفية.. ولا تحاول –عزيزي القارئ- أن تخفف من هذه الظاهرة وتصفها بأنها حالات فردية؛ لأن محرك البحث بين أياديك وقادر خلال ثوانٍ على أن يجبرك على أن تمسك برأسك من هول سيناريوهات الاعتداءات التي ستزدحم أمامك!!

لقد بات الاعتداء على الأطباء ظاهرة من الظواهر السيئة التي بدأت تنتشر في المجتمع وتكاد تتكرر بشكلٍ متواصل؛ رغم أنه من المسلمات المعلومة أنه لا يجوز الاعتداء على أي إنسان مهما كان السبب.. فما بالكم إذا كان هذا الإنسان صاحب رسالة عظيمة كالطبيب، فلا يجوز الاعتداء على أي طبيب حتى لو كان مذنباً؛ فهناك قانون يحاسبه، ثم إن تصوير مثل هذه الحوادث أو توثيق –وقاحات- استفزاز الأطباء تعتبر اختراقاً للخصوصية التي يجب أن يُعاقِب عليها القانون بشكلٍ صارم حيث نصت اللوائح على أن يكون مقابلها جزاءٌ رادعٌ و"ضربٌ بيدٍ من حديد".

لقد أصبح من الواجب في الوقت الحالي أن يكون هناك قانونٌ صريحٌ وواضح يحمي الأطباء والعاملين في القطاع الصحي من الاعتداءات المتكررة والابتزاز من التصوير الممنوع قانونياً وأن يسري هذا القانون على جميع الأطباء وأفراد الطاقم الطبي العاملين في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والعيادات الخاصة، مع تشديد العقوبات على من يعتدي على الأطباء، لأن الصمت الحالي و –غض الطرف- عن مثل هذه التصرفات قد شجع وفاقم من ظاهرة الاعتداءات ونخشى أن تستمر وتتصاعد حتى تصل إلى درجةٍ لا تحمد عقباها.

إن من المفترض على وزارة الصحة والمستشفيات المعنية أن تعمل على مطالبة الجهات المسؤولة باتخاذ التدابير والإجراءات المناسبة لحماية الطاقم الطبي من هذه الاعتداءات الدخيلة على مجتمعنا والتي بدأت فعلاً بالتأثير السلبي على زملاء المهنة، ونخشى من عواقبها التي سيدفع ثمنها بلا شك الوطن والمواطن أكثر من الطبيب نفسه.

كما أنه من الضروري أن تكون هناك جهة مسؤولة تتولى متابعة مثل هذه القضايا وتصعيدها ولا نكتفي بإصدار البيانات الصامتة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم يعد هناك من يعيرها الاهتمام، وأن لا يُترك الطرح مقتصراً على مراسل صحيفةٍ ما ليكتب ما يريد نشره.

لا أعلم لماذا يتحلى البعض بأفضل الأخلاق حين يقوم بمراجعة معاملةٍ تخصه في دائرةٍ حكومية، فتجده يتودد للموظف بأرق العبارات، بينما يأتي للطبيب -المؤتمن على أغلى ما يملك وهي صحته- فيتعمد إهانته أو الاعتداء عليه أو أشد من ذلك، كما أني لم أجد حتى الآن تفسيراً لبعض من تتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الطمأنينة أمام القاضي أو كاتب العدل وأفراد الأمن، بينما تجده أمام الطبيب منزوع الرحمة والطمأنينه!!

إن الاعتداء على الأطباء لم يقف عند حد الاعتداء الجسدي بل وصل إلى الاعتداء اللفظي والمعنوي، حين تجرأ بعض من يُفترض أنهم يحملون قلم الكتابة وأمانة الحرف على النيل من إخلاص الأطباء وتفانيهم في عملهم الإنساني فوصفوهم بأقبح العبارات التي يُخيّل للقارئ أنها تصف "لصاً يسرق البلد" ولابد من ردعه!! مقالاتٌ مخجلةٌ صدرت من كتّابٍ متعلمين للأسف.

لا يمكن التشكيك إطلاقاً في أن مهام الأطباء والعاملين في القطاع الصحي لا تقل عن أدوار ومهام الجنود المرابطين على الحدود؛ فبغض النظر عن عمل الأطباء الدؤوب ليل نهار من غير راحةٍ تذكر؛ تجدهم دوماً على ثغور الإسعاف أثناء الاعتداء بالتفجيرات، وتجدهم كذلك مرابطين طيلة أوقات الأوبئة والفيروسات التي انتشرت خلال السنوات الماضية، والآن تتعاقب فئاتٌ منهم بشكلٍ متواصلٍ على الحدود الجنوبية السعودية للعمل في مستشفياتها غير آبهةٍ بأرواحها التي أرخصتها مقابل الوطن والمواطن، إن فئة الأطباء هي بالتأكيد فئةٌ لا تحتاج إلى امتحان ولا إلى مواقف ليتم اختبارها.

إن الأمم –يا ساده يا كرام- تقاس بعلمائها، الذين جرت العادة على تسميتهم ورثة الأنبياء؛ وبلا أدنى شك فإن الأطباء يُعدّون أحد أهم أركان العلماء، وهنا لن أتطرق نهائياً إلى عظم مكانة الطبيب واحترامه في الدول الغربية المتقدمة، ولن أُحدّثك أبداً -عزيزي القارئ- عن التقدير المقدم من قبل تلك الدول للطبيب سواء أكان مجتمعياً وإنسانياً أو حتى مادياً، والذي يجب ألا نقابلها في بلادنا باعتداءاتٍ جسدية أو معنوية.. أو محاولة تجريده من بعض المميزات والبدلات المادية ومحاولة التشكيك في استحقاقه لها؛ فالذي قدم التضحيات طوال سنين عمره وعلى حساب عائلته وصحته وأغلى ما يملك؛ لاينتظر من مجتمعه الانتقاص من قدره أو سلبه أدنى ما يستحق من حقوق.

*طبيب البورد الأوروبي في أمراض المخ والأعصاب